فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{والذين اتخذوا مَسْجِدًا} عطفٌ على ما سبق أي ومنهم الذين أو نصبٌ على الذم وقرئ بغير واو لأنها قصة على حيالها {ضِرَارًا} أي مضارّةً للمؤمنين وانتصابُه على أنه مفعولٌ ثانٍ لاتخذوا أو على أنه مصدرٌ مؤكدٌ لفعل مقدر منصوبٍ على الحالية أي يضارّون بذلك ضرارًا أو على أنه مصدرٌ بمعنى الفاعل وقع حالًا من ضمير اتخذوا أي مضارِّين للمؤمنين.
«روي أن بني عمرو بنِ عَوْف لما بنَوا مسجدَ قُباءَ بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهَم فيصليَ بهم في مسجدهم فلما فعله عليه الصلاة والسلام حسدتْهم إخوتُهم بنو غنم بنِ عوف وقالوا: نبني مسجدًا ونرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه، ويصلي فيه أبو عامرٍ الراهب أيضًا إذا قدم من الشام».
وهو الذي سماه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الفاسقَ «وقد كان قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد: لا أجد قومًا يقاتلونك إلا قاتلتُك معهم فلم يزل يفعل ذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازنُ يومئذ ولّى هاربًا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استعدتم من قوة وسلاح فإني ذاهبٌ إلى قيصرَ وآتٍ بجنود ومخرجٌ محمدًا وأصحابَه من المدينة».
فبنَوا مسجدًا إلى جنب مسجد قباءَ وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: بنينا مسجدًا لذي العلّة والحاجةِ والليلةِ المطيرة والشاتية ونحن نحب أن تصليَ لنا فيه وتدعوَ لنا بالبركة فقال عليه الصلاة والسلام: «إني على جناح سفر وحالِ شُغْلٍ وإذا قدِمنا إن شاء الله تعالى صلينا فيه» فلما قفَل عليه الصلاة والسلام من غزوة تبوكَ سألوه إتيانَ المسجد فنزلت عليه فدعا بمالك بنِ الدخشم ومعنِ بن عدي وعامر بنِ السكن ووحشي فقال لهم: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالمِ أهلُه فاهدِموه وأحرِقوه» ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كُناسةٌ تلقى فيها الجيفُ والقُمامة وهلك أبو عامر الفاسقُ بالشام بقِنَّسْرين {وَكُفْرًا} تقوية للكفر الذي يُضمِرونه {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين} الذين كانوا يصلون في مسجد قباءَ مجتمعين فيغص بهم فأرادوا أن يتفرقوا وتختلف كلمتُهم {وَإِرْصَادًا} إعدادًا وانتظارًا وترقبًا {لّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ} وهو الراهبُ الفاسقُ أي لأجله حتى يجيءَ فيصليَ فيه ويظهرَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم {مِن قَبْلُ} متعلقٌ باتخذوا أي اتخذوا من قبل أن ينافقوا بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غزوة تبوك، أو بحارب أي جارٍ بهما قبل اتخاذِ هذا المسجد {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا} أي ما أردنا ببناء هذا المسجد {إِلاَّ الحسنى} إلا الخَصلةَ الحسنى وهي الصلاةُ وذكرُ الله والتوسعةُ على المصلين أو إلا الإرادةَ الحسنى {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون} في حلِفهم ذلك. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا} عطف على ما سبق أي ومنهم الذين، وجوز أن يكون مبتدأ خبره {أَفَمَنْ أَسَّسَ} [التوبة: 109] والعائد محذوف للعلم به أي منهم أو الخبر محذوف أي فيمن وصفنا، وأن يكون منصوبًا بمقدر كأذم وأعني.
وقرأ نافع وابن عامر بغير واو، وفيه الاحتمالات السابقة إلا العطف، وأن يكون بدلًا من {ءاخَرُونَ} [التوبة: 106] على التفسير المرجوح، وقوله سبحانه: {ضِرَارًا} مفعول له وكذا ما بعده وقيل: مصدر في موضع الحال أو مفعول ثان لا تخذوا على أنه بمعنى صيروا أو مفعول مطلق لفعل مقدر أي يضارون بذلك المؤمنين ضرارًا، والضرار طلب الضرر ومحاولته، أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار قال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدًا واستمدوا ما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمدًا عليه الصلاة والسلام وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو بالبركة فنزلت.
وأخرج ابن إسحق وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال أتى أصحاب مسجد الضرار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا، يا رسول الله أنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الساتية وأنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال صلى الله عليه وسلم: إني على جناح سفر وحال شغل أو كما قال عليه الصلاة والسلام ولو قدمنا إن شاء الله تعالى لآتيناكم فصلينا لكم فيه فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ونزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار أتاه خبر المسجد فدعا مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي وأخاه عاصم بن عدي أحد بلعجان فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وأحرقاه فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك فقال مالك لصاحبه: أنظرني حتى أخرج لك بنار من أهلي فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارًا ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله فأحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ونزل فيهم من القرآن ما نزل وكان البانون له اثنى عشر رجلًا: خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج المسجد.
وعباد بن حنيف من بني عمرو بن عوف أيضًا وثعلبة بن حاطب ووديعة بن ثابت وهما من بني أمية بن زيد رهط أبي لبابة بن عبد المنذر ومعتب بن قشير وأبو حبيبة بن الأزعر وحارثة بن عامر وابناه مجمع وزيد ونبيل بن الحرث ونجاد بن عثمان، وبجدح من بني ضيعة.
وذكر البغوي من حديث ذكره الثعلبي كما قال العراقي بدون سند أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعد حرق المسجد وهدمه أن يتخذ كناسة يلقى فيها الجيف والنتن والقمامة إهانة لأهله لما أنهم اتخذوه ضرارًا {وَكُفْرًا} أي وليكفروا فيه، وقدر بعضهم التقوية أي وتقوية الكفر الذي يضمرونه، وقيل عليه: أن الكفر يصلح علة فما الحاجة إلى التقدير.
واعتذر بأنه يحتمل أن يكون ذلك لما أن اتخاذه ليس بكفر بل مقوله لما اشتمل عليه فتأمل {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين} وهم كما قال السدى أهل قباء فإنهم كانوا يصلون في مسجدهم جميعًا فأراد هؤلاء حسدًا أن يتفرقوا وتختلف كلمتهم {وَإِرْصَادًا} أي ترقبا وانتظارًا {لّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ} وهو أبو عامر والد حنظلة غسيل الملائكة رضي الله تعالى عنه، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وتنصر فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر: ما هذا الدين الذي جئت به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الحنيفية البيضاء دين إبراهيم عليه السلام قال: فأنا عليها فقال له عليه الصلاة والسلام: إنك لست عليها فقال: بلى ولكنك أنت أدخلت فيها ما ليس منها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية فقال أبو عامر: أمات الله تعالى الكاذب منا طريدًا وحيدًا فأمن النبي صلى الله عليه وسلم فسماه الناس أبا عامر الكذاب وسماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق فلما كان يوم أحد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أجد قومًا يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل كذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن يومئذ ولى هاربًا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين يحثهم على بناء مسجد كما ذكرنا آنفًا عن الحبر فبنوه وبقوا منتظرين قدومه ليصلي فيه ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهدم كما مر ومات أبو عامر وحيدًا بقنسرين وبقي ما أضمروه حسرة في قلوبهم.
{مِن قَبْلُ} متعلق بحارب أي حارب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام قبل هذا الاتخاذ أو متعلق باتخذوا أي اتخذوه من قبل أن ينافقوا بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غزوة تبوك كما سمعت، والمراد المبالغة في الذم {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا} أي ما أردنا ببناء هذا المسجد {إِلاَّ الحسنى} أي إلا الخصلة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله تعالى والتوسعة على المصلين؛ فالحسنى تأنيث الأحسن وهو في الأصل صفة الخصلة وقد وقع مفعولًا به لأردنا، وجوز أن يكون قائمًا مقام مصدر محذوف أي الإرادة الحسنى {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون} فيما حلفوا عليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا} هذا كلام على فريق آخر من المؤاخَذين بأعمال عملوها غضب الله عليهم من أجلها، وهم فريق من المنافقين بنوا مسجدًا حول قباء لغرض سيء لينصرف إخوانهم عن مسجد المؤمنين وينفردوا معهم بمسجد يخصهم.
فالجملة مستأنفة ابتدائية على قراءة من قرأها غيرَ مفتتحة بواو العطف، وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر.
ونكتة الاستئناف هنا التنبيه على الاختلاف بين حال المراد بها وبين حال المراد بالجملة التي قبلها وهم المرجون لأمر الله.
وقرأها البقية بواو العطف في أولها، فتكون معطوفةً على التي قبلها لأنها مثلها في ذكر فريق آخر مثل مَن ذكر فيما قبلها.
وعلى كلتا القراءتين فالكلام جملة أثر جملة وليس ما بعد الواو عطف مفرد.
وقوله: {الذين} مبتدأ وخبره جملة: {لا تقم فيه أبدًا} كما قاله الكسائي.
والرابط هو الضمير المجرور من قوله: {لا تقم فيه} لأن ذلك الضمير عائد إلى المسجد وهو مفعولُ صلةِ الموصول فهو سببي للمبتدأ، إذ التقدير: لا تقم في مسجد اتخذوه ضرارًا، أو في مسجدهم، كما قدره الكسائي.
ومن أعربوا {أفمن أسس بنيانه} [التوبة: 109] خبرًا فقد بعدوا عن المعنى.
والآية أشارت إلى قصة اتخاذ المنافقين مسجدًا قُرب مسجد قُباء لقصد الضرار، وهم طائفة من بني غُنْم بن عَوف وبني سالم بن عَوف من أهل العوالي، كانوا اثني عشر رجلًا سماهم ابن عطية.
وكان سبب بنائهم إيَّاه أن أبا عامر واسمه عبد عمرو، ويلقب بالراهب من بني غنم بن عوف كان قد تنصر في الجاهلية فلما جاء الإسلام كان من المنافقين.
ثم جاهر بالعداوة وخرج في جماعة من المنافقين فحزَّب الأحزاب التي حاصرت المدينة في وقعة الخندق فلما هزمهم الله أقام أبو عامر بمكة.
ولما فتحت مكة هرب إلى الطائف، فلما فتحت الطائف وأسلمت ثقيف خرج أبو عامر إلى الشام يستنصر بقيصر، وكتب إلى المنافقين من قومه يأمرهم بأن يبنوا مسجدًا ليخلصوا فيه بأنفسهم، ويعِدهم أنه سيأتي في جيش من الروم ويخرج المسلمين من المدينة.
فانتدب لذلك اثنا عشر رجلًا من المنافقين بعضهم من بني عمرو بن عوف وبعضهم من أحلافهم من بني ضبيعَة بن زيد وغيرهم، فبنوه بجانب مسجد قباء، وذلك قُبيل مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تَبوك.
وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ونحن نحب أن تصلي لنا فيه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه.
فلما قفل من غزوة تبوك سألوه أن يأتي مسجدهم فأنزل الله هذه الآية، وحلفوا أنهم ما أرادوا به إلا خيرًا.
والضرار: مصدر ضار مبالغة في ضر، أي ضِرارًا لأهل الإسلام.
والتفريق بين المؤمنين هو ما قصدوه من صرف بني غُنم وبني سالم عن قباء.
والإرصاد: التهيئة.
والمراد بمن حارب الله ورسوله أبو عامر الراهب، لأنه حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأحزاب وحاربه مع ثقيف وهوازنَ، فقوله: {من قبلُ} إشارة إلى ذلك، أي من قبل بناء المسجد.
وجملة: {وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى} معترضة، أو في موضع الحال.
والحسنى: الخير.
وجملة: {والله يشهد إنهم لكاذبون} معترضة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}
يقص لنا القرآن هنا حالًا من أحوال المنافقين، وأحوالهم مع الإيمان متعددة. وقد ذكر الحق سبحانه عنهم أشياء صدَّرها بقوله: {وَمنْهُمْ}، {وَمنْهُمْ} و{وَيَحْلِفُونَ}، {وَيَحْلِفُونَ}؛ ولذلك يسميها العلماء مناهم التوبة، مثل قوله: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله...} [التوبة: 75].